بعض الناس اليوم وقعوا بين إفراط وتفريط، ففريق يطعنون في العلماء ويتهمونهم كلما قالوا شيئا.
وفريق آخر إذا سمعوا عالما أو طالب علم يبين الحق بدليله قالوا: إنه يقع في أعراض العلماء، ويحدث فتنة.
وكلا الفريقين مجانب للمنهج الصحيح في هذا الباب.
فما المنهج الصحيح الذي نجمع فيه بين بيان الحق وحماية أعراض علمائنا، غير ملتزمين بقول إلا إذا كان مقرونا بالدليل؟
يمكن توضيح ذلك المنهج كما يلي:
1- التثبت من صحة ما ينسب إلى العلماء.
فقد يشاع عن العلماء أقوال لأغراض لا تخفى، فيجب التأكد مما ينقل عن العلماء، فقد يكون غير صحيح، ولا أساس له، وكم سمعنا من أقوال نسبت إلى كبار علمائنا، ولما سألناهم عنها تبين أنهم براء منها، هناك غير قليل من الناس يجلس أحدهم في المجلس ويقول: الشيخ فلان -هداه الله- فيه كيت وكيت، فتسأله: لماذا؟، فيقول: إنه يقول: كذا وكذا، حتى إذا ذهبت إلى ذلك الشيخ وسألته عن صحة ما نقل عنه، قال: والله ما قلت شيئا من هذا!!
إذن فالتحقق من صحة ما يعزى إلى العالم يعد خطوة أولى في المنهج الصحيح الذي نحن بصدده.
2- أن نعرف أن عدم الأخذ بقول العالم وأن مناقشته، والصدع ببيان الحق، يختلف تماما عن الطعن في العلماء، فالفرق بين الأمرين عظيم جدا، يجوز لنا ألا نأخذ بالفتوى، إذا لم توافق الدليل، لكن لا يجوز لنا الطعن في العلماء.
3- أن يقصد المتحدث بكلامه وجه الله -جل وعلا- فيستحضر الإخلاص، ويحذر من الأغراض الشخصية العارضة كالهوى والتشفي وحب الظهور، (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) .
ولينتبه فإنه قد يكون رده في الأصل بإخلاص وتجرد لله، ثم تدخل عليه أعراض يوسوس إليه بها الشيطان، من حب البروز وغيره من الآفات المفسدة للنية.
4- الإنصاف والعدل:
المتأمل في واقع بعض طلاب العلم يجدهم إما أن يأخذوا كل ما يقوله العالم، أو يردوا كل ما يقوله، وهذا خلاف ما أمر الله -تعالى- به من العدل والإنصاف، قال -تعالى-: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ، والعدل والإنصاف هو منهج أهل السنة والجماعة، قال شيخ الإسلام -ابن تيمية-: "أهل السنة أعدل مع المبتدعة من المبتدعة بعضهم مع بعض".
والعدل والإنصاف مع العلماء يتضمن أمورا:
أ- الثناء على العالم بما هو أهل له.
ب- عدم التجاوز في بيان الخطأ الذي وقع فيه، فإذا وقع أحد العلماء في خطأ، وأردت أن تبين خطأه، فلا تذهب تحصي جميع أخطائه، وتستطيل في عرضه، وإنما احصر حديثك في القضية التي تريد بيان الحق فيها، ولا تتجاوزها، وإياك أن يستجرك أحد إلى تجاوزها.
5- أن نسلك منهج رجال الحديث في تقويم الرجال:
إن على من يتصدى لبيان الحق في مسألة أخطأ فيها أحد العلماء، أن يسلك المنهج الدقيق المنصف الذي رسمه رجال الحديث -رحمهم الله-، وثمة رسالة جميلة مختصرة، صغيرة في حجمها، كبيرة في قيمتها، تبين هذا المنهج، وعنوانها:" منهج أهل السنة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم" للشيخ: أحمد الصويان، فأحيل القارئ الكريم إليها، ففي النهر ما يغني عن الوشل.
6- أن نعلم أن خطأ العالم على نوعين: خطأ في الفروع، وخطأ في الأصول.
أما مسائل الفروع فهي مسائل اجتهادية، يجوز فيها الخلاف، فإذا أخطأ فيها العالم؛ بينا خطأه فيها، بدون تعرض لشخصه.
وأما مسائل الأصول (العقيدة)، فيبين القول الصحيح فيها، ويحذر من أهل البدع في الجملة، وينبه إلى خطورة الداعي إلى بدعته، بدون إفراط ولا تفريط، يقول شيخ الإسلام: "أهل السنة أعدل مع المبتدعة بعضهم مع بعض"، فالمبتدعة يأكل بعضهم لحوم بعض، وكل فئة تغمط الأخرى حقها، وأما أهل السنة فينصفون حتى مع الكفار، فضلا عمن كان مخطئا خطأ دون الكفر.
إن بعض الناس اليوم يميلون ميلا عظيما عن طريق أهل السنة والجماعة في هذا الباب، فقد استمعت منذ فترة إلى قصة مؤلمة محزنة، وهي أن نفرا اتهموا أحد الدعاة بأخطاء في العقيدة، ولم يقتصروا على بيان أخطائه العقيدية، بل مضوا يذكرون عنه قصصا شخصية في بيته: عن زوجته، وعن بنته، وعن أولاده، سبحان الله! لماذا الحديث عن زوجته وبنته وأولاده؟! ما الداعي للطعن في شخصه؟! حقا إننا لا نحث على السكوت عن الخطأ، ولكننا ندعو إلى الأسلوب الصحيح، لبيان الحق وتوضيح الخطأ.
7- أخيرا: إذا أمكن الاتصال بمن وقع منه الخطأ سواء في الأصول أو الفروع - لعله يرجع إلى الصواب، فهذا أولى؛ لأن الحق هو المقصود، وفي رجوع المخطئ بنفسه عن قوله وإعلانه ذلك للناس خير كثير؛ لأنك إن رددت عليه، وبينت الحق فقد يقتنع نصف الناس، أما إذا رجع هو بنفسه بعد مناصحتك له، وتخويفك إياه بالله فسيقتنع كل الناس الذين أخذوا بقوله.
ومما يذكر في هذا المقام أن اثنين من العلماء اختلفا في مسألة، فلم يذهب كل واحد منهما يخطئ صاحبه عند الناس، بل اجتمعا وتناظرا، فكانت نهاية المناظرة أن أخذ كل واحد منهما بقول الآخر؛ لأن مرادهما هو الحق.