محاربة المرتدين
قام الصِّدِّيق رضي الله عنه أولاً بحراسة المدينة المنورة حراسة مستمرة، فوضع الفرق العسكرية في كل مداخل المدينة، ثم قام بمراسلة كل القبائل التي بقيت على الإسلام لتوافيه في المدينة المنورة، وأقام مُعَسْكَرًا للجيوش الإسلامية في شمال المدينة، وأرسل رسائل شديدة اللهجة إلى كل قبائل المرتدين يدعوهم فيها إلى العودة إلى ما خرجوا منه، وإلاَّ حاربهم أشدَّ المحاربة، وهدَّدهم وتوعَّدهم، وذلك ليُلقِي الرهبة في قلوبهم، كنوعِ من الحرب النفسيَّة على المرتدِّين.
وبدأ الصِّدِّيق رضي الله عنه في تجهيز مجموعة من الجيوش الإسلامية التي ستخرج لحرب المرتدين في وقت متزامن، فجهز 11 جيشًا كاملاً. ومع أن كل جيش لم يَعْدُ أن يكون ألفين أو ثلاثة، أو بالكاد خمسة آلاف، ولكنها كانت جيوشًا مُنَظَّمة, راغبةً في الجهاد في سبيل الله, فاهمةً لقضيتها, معتمدة على ربِّها، ومن كانت هذه صفته فيُرجى له النصر إن شاء الله. وحدَّد الصِّدِّيق رضي الله عنه اتجاه كل جيش من هذه الجيوش الأحد عشر، فوُزِّعت هذه الجيوش على الجزيرة توزيعًا دقيقًا؛ بحيث تستطيع تمشيط كل رقعة منها تمشيطًا كاملاً، فلا تبقى قبيلة أو منطقة إلا وفيها من جيوش المسلمين، وكانت قيادة الجيوش الإسلامية، ومسارح عملياتها على الصورة التالية:
الجيش الأول
قاد خالد بن الوليد رضي الله عنه ذلك العبقري المسلم الفذّ الجيش الأول، وكان عدد الجيش 4000 مجاهد وكان أكبر الجيوش، إلاَّ أن المهمَّة كانت صعبة؛ فقد كان متجهًا إلى حرب طيئ أولاً، ثم بني أسد تلك القبيلة الخطيرة التي يقودها طليحة بن خويلد الأسدي، ثم بني تميم وفيهم مالك بن نُويرة، فإذا انتهى من كل هذا بنجاح فإن عليه أن يتوجه إلى بني حنيفة؛ لمقابلة أخطر جيوش المرتدين، وعلى رأسها مسيلمة الكذاب، وذلك لمساعدة الجيشيْن الثاني والثالث. وكان مع خالد في جيشه عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه، فلما مرَّ المسلمون على قبائل طيئ -وهي قبيلة عدي بن حاتم، وقد ارتدَّتْ معظم القبيلة إلا فرعين أحدهما يُدعى غوث، والآخر يسمَّى جديلة- وقف عدي بن حاتم في منطقة غوث، وحضَّهم على الإيمان، فوافقت القبيلة، وثبتت على إسلامها، وأتى منها بخمسمائة مجاهد لم يرتدوا. ثم ذهب عدي بن حاتم لجديلة وكلمهم، فثبتت على إسلامها أيضًا، فأتى منها بخمسمائة رجل، فأصبح جيش المسلمين 5000 مجاهد، فانطلق خالد إلى طليحة الأسدي، فهزمه هزيمة نكراء، وفرَّ طليحةُ بن خويلد نفسه، ثم بعد ذلك أراد الله له الخير، فأسلم وشارك في الفتوح.
وصل خالد بعد ذلك إلى قبيلة بني تميم، فوجدهم قد دخلوا في الإسلام كما خرجوا منه؛ لمَّا رأوا انتصار المسلمين على جيوش بني أسد، وكان الصِّدِّيق رضي الله عنه قد أوصى أمراء الجيوش أنهم إذا سمعوا الأذان في الحيِّ وإقامة الصلاة نزلوا عليهم، فإن أجابوا إلى أداء الزكاة، وإلاّ الغارة، فجاءت السرية حيَّ مالك بن نويرة، فأسر خالد بن الوليد مجموعة منهم فيهم مالك بن نويرة نفسه. وهناك اختلاف شديد على تصرُّف خالد بن الوليد في مالك بن نويرة وبعض الأسرى الآخرين, والتفسير الأقرب إلى الصحة أن خالد بن الوليد قال لبعض الحرّاس الذين يحرسون الأسرى: أدفئوا أسراكم؛ لأنها كانت ليلة شديدة البرد، ولكن مجموعة من الحرّاس في لغتهم إذا قالوا: أدفئوا الرجل. يعنون: اقتلوه. فقتلوا الأسرى، وبدءوا بمالك بن نويرة قائد القوم، فقتلوا منهم عددًا، حتى بلغ خالد بن الوليد ذلك، فقال: حسبكم.
الجيش الثاني
وكان هذا الجيش متجهًا إلى قبيلة بني حنيفة التي فيها مسيلمة بن حبيب الكذاب، ولنتحدث قليلاً عن تاريخ بني حنيفة، وكيف بدأت الردة فيهم.
قُبيل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدمت الوفود من كل الجزيرة العربية تبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وكان من ضمن هذه الوفود وفد بني حنيفة، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاء قوم يبايعونه على الإسلام أن يعطيهم عطاءً ليتألَّف قلوبهم، فأعطاهم، فَقَالُوا: يا رسول الله، إنا قد خلفنا صاحبًا لنا في رِحالِنا وفي رِكابِنا يحْفظها لنا. وكان مسيلمة بن حبيب هو الذي ظل مع متاعهم ليحرسها لهم، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم، وقال: " أَمَا إنّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا". ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءوه بما أعطاه، فلما انتهَوْا إلى اليَمَامَةِ ارْتَدَّ عَدُوُّ الله، وَتَنَبّأَ، وَتَكَذّبَ لهم، وقال: إني قد أشركت في الأمر معه. وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذَكَرْتُمُونِي له: " أَمَا إنّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا"؟ ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه. فآمن له بعض قومه، وأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة مع رجلين من قومه قد آمنا بدعوته يقول: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، إني قد أُشركت في الأمر معك، فلنا نصف الأرض، ولكم نصف الأرض، أو تجعل لي الأمر من بعدك، ولكني أعلم أن قريشًا قوم لا يعدلون. وكتب صلى الله عليه وسلم رسالة، وأعطاها إلى حبيب بن زيد أحد الصحابة الشباب، وقال في رسالته صلى الله عليه وسلم:
" مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، السَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ".
فما كان من مسيلمة الكذاب إلا أن قتل حبيب بن زيد رضي الله عنه, فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث له جيشًا يقاتله، أو يردُّه إلى الإسلام، ولكنه في ذلك الوقت صلى الله عليه وسلم كان مشغولاً بتجهيز بعث أسامة بن زيد إلى حدود الشام. وقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرسل إلى بني حنيفة مَن يردهم للإسلام، فاختار رجلاً منهم؛ حتى يكون أقرب للسان قومه, ولعلهم يستجيبون له أكثر من غيره، وهو صحابي اسمه نهار الرَّجَّال، فأتى هذا الرجل مسيلمة الكذاب في خيمته، وجلس معه طويلاً، اجتمع القوم مسلمهم ومرتدُّهم حول خيمة مسيلمة, وطال الحديث بين مسيلمة الكذّاب وبين نهار الرجَّال، ثم خرج نهار الرجال فسأله القوم: ما يقول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسيلمة؟ فإذا بالرَّجَّال يقول: لقد أُشرك مسيلمة في الأمر مع محمد.
وارتد الرجل، وانقسمت بنو حنيفة؛ فخمسون ألفًا على الإسلام، وخمسون ألفًا ارتدوا، أربعون ألفًا منهم في يوم واحد على يد هذا الرجل نهار الرَّجّال، فقويت شوكة مسيلمة بن حبيب الكذاب، وأصبح له جيش تعداده خمسون ألفًا، وانقلبوا على المسلمين من قبيلتهم يعذبونهم، وكان فيهم ثمامة بن أثال الصحابي الجليل، فبدأ ثمامة بن أثال رضي الله عنه يقاتل مسيلمة الكذاب، لكن قوة مسيلمة الكذاب كانت أشدَّ، ووصلت الأنباء إلى بني حنيفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد توفِّي، فارتدت بقية القبيلة، الخمسون ألفًا الباقية، وأصبحت القبيلة كلها مرتدة، ولم يبقَ فيها إلا ثُمامة بن أُثال مع بعض الناس، فهربوا من القبيلة.
لذلك فإنَّ أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه وجَّه لها جيشين؛ جيش على رأسه عكرمة بن أبي جهل، والآخر على رأسه شُرحبيل بن حسنة، وأمر عكرمة ألاّ يقاتل حتى يأتيه جيش شرحبيل. كان الجيش الأول حوالي ثلاثة آلاف، والجيش الثاني كان نفس العدد، فتعجَّل عكرمة بن أبي جهل في قتال مسيلمة قبل أن يأتيه شرحبيل بن حسنة، فاجتاح جيش مسيلمة جيش عكرمة بن أبي جهل، ففرَّ جيش عكرمة وتفرَّقوا في المنطقة. ووصلت الأنباء إلى أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه بالمدينة، فحزن حزنًا شديدًا، وعلم أن الجيش الإسلامي في طريقه إلى المدينة، فأرسل رسالة إلى عكرمة بن أبي جهل؛ ففي بداية الرسالة عَنَّفه بشدة على تسرُّعه في محاربة مسيلمة الكذاب، ثم قال له: لا ترجع بجيشك إلى المدينة، واتَّجه بجيشك إلى حذيفة بن محصن، وعرفجة بن هرثمة في اليمن، فقاتِل معهما.