الجيش الثالث
عسكر جيش شرحبيل بن حسنة قرب بني حنيفة منتظرًا مدد أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، ثم تعجَّل فهاجم بجيشه الصغير (3000 مجاهد) جيش مسيلمة الذي قد بلغ تعداده بعد الرِّدَّة مائة ألف، فحدث مع جيش شرحبيل نفس الذي حدث مع عكرمة بن أبي جهل، وأبو بكر الصِّدِّيق يحزن حزنًا شديدًا، ويرسل له أنِ امْكُثْ في مكانك، ولا ترجع إلى المدينة.
الجيش الرابع وموقعة اليمامة
كلف الصِّدِّيق خالد بن الوليد بقتال بني حنيفة، فجمع خالد بن الوليد جيشه بالإضافة إلى بعض الصحابة من المدينة، وأيضًا جيش شرحبيل بن حسنة، وتوجّه الجميع إلى قبيلة بني حنيفة. وبعد خروج جيش خالد من المدينة، أرسل أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه مددًا آخر إلى خالد بن الوليد، فوصل العدد الإجمالي اثني عشر ألفًا.
وفي الوقت الذي توجَّه فيه خالد من المدينة لمحاربة مسيلمة الكذاب كان هناك جيش آخر متَّجها من الشمال إلى بني حنيفة لقتالهم أيضًا، وعلى رأس هذا الجيش (سَجَاح) التي ادَّعت النبوة، وهذا الجيش -على أغلب التقديرات- تعداده يصل إلى مائة ألف، فلم تكن قوة المرتدين قوة واحدة، بل كان هدف كل قوة السيطرة على الجزيرة العربية بمفردها.
فأتت (سجاح) إلى اليمامة مُدَّعِيةً أنها قد أوحي إليها أن تقاتل اليمامة أولاً، فعلم مسيلمة بمقدم جيشها، وهو ينتظر خالد بن الوليد من الناحيه الثانية، فخشي أن تجتمع عليه الجيوش، فجمع مسيلمة الكذاب أربعين رجلاً من قومه، وذهب ليتفاوض مع هذه المدَّعية، فالتقى معها في خيمتها، فعرضت عليه أن ترحل، ولا تحاربه شريطة أن يعطيها نصف ثمار اليمامة؛ ففي بادئ الأمر وافقها، ثم عرض عليها أن يتزوجها، فوافقت، وجعل صداقها أن أسقط عن قومها صلاتي العشاء والفجر. ثم أتت الأنباء إلى اليمامة أن خالدًا على مشارف اليمامة، فلما علمت بذلك سجاح خشيت على نفسها وقومها من الهلكة، وذهبت لمسيلمة لتأخذ نصف ثمار اليمامة، ولا يفكر في أمر زواجهما، وترحل هي عن اليمامة، فوافقها. ويقال بعد ذلك إنها قد أسلمت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وأتى جيش خالد بن الوليد، فأرسل فرقة تتحسَّس الطريق في اليمامة، ووجدت في طريقها ستين رجلاً من بني حنيفة أرادوا أن يغيروا على بعض المسلمين حول بني حنيفة، فأتوا بهم إلى خالد، فتحدث معهم خالد، فأصرُّوا على ردتهم، فبدأ رضي الله عنه يقتلهم كما أمره أبو بكر الصِّدِّيق، واحدًا تلو الآخر، وبقي رجلٌ ظل على ردَّتِه، وأراد خالد قتله، ولكن أشار عليه أحد المسلمين أن يحتفظ به أسيرًا؛ لأن له كلمة في قومه، وكان اسمه مجاعة بن مرارة، فقيّده، ووضعه في خيمته، ووَكّل في إطعامه وشرابه زوجته. ثم تقدمت الجيوش الإسلامية ناحية بني حنيفة، فجعل شرحبيل بن حسنة على المقدمة، وعلى ميمنته زيد بن الخطاب، وعلى الميسرة أبا حذيفة، ثم فَرّق بين المهاجرين والأنصار؛ حتى يعلم المسلمون من أين يُؤتون، وليحفِّز المسلمين على القتال، وجعل على راية الأنصار ثابت بن قيس، وعلى راية المهاجرين سالم مولى أبي حذيفة، ويبقى خالد بن الوليد في منتصف الجيوش حتى يدير هو كل المعركة، وجعل فسطاطه في مؤخرة هذا الجيش، وفي داخل الفسطاط (مجاعة) الأسير، وزوجة خالد تقوم برعايته، وجعل في مؤخرته سَلِيط بن قيس.
أمَّا مسيلمة بن حبيب الكذّاب فكانت عنده مجموعة كبيرة من الحصون، أكبرها يسمونه الحديقة، وله أسوار عالية، وكانت قوة مسيلمة كبيرة جدًّا لا تستوعبها هذه الحديقة، فخرج بجيشه خارج حديقته، وبقي مسيلمة في مؤخرة جيشه، ووضع خيمته على باب حصنه، حتى إذا حدثت هزيمة يدخل هو الحصن. والتقى الجيشان، وفي بداية المعركة هجم جيش مسيلمة هجومًا شديدًا على جيش المسلمين، واخترقوه حتى وصلوا إلى فسطاط خالد بن الوليد، وحرَّروا (مجاعة)، وكادوا أن يقتلوا زوجة خالد بن الوليد، لولا أن أجارها مجاعة بن مرارة. وفَوْر وقوع هذا الانكسار جمع المسلمون أنفسهم، وظهرت نماذج في جيش المسلمين لا تكاد تتكرر في التاريخ؛ فقام زيد بن الخطاب رضي الله عنه الذي نذر ألاّ يتكلم حتى ينصره الله على هؤلاء المرتدين، أو يُقتل في سبيل الله في هذه المعركة، وبدأ يجمع حوله مجموعة من الصحابة الأبرار، وقاتل قتالاً شديدًا في جهة اليمين، حتى وفّقه الله تعالى إلى أن يصل إلى نهار الرَّجّال قائد ميسرة المرتدين، فقتل زيد بن الخطاب نهار الرَّجال، فضعفت الهمة في قلوبهم، فانكسروا انكسارًا كبيرًا، وهجم عليهم المسلمون. واستمر زيد بن الخطاب في القتال، ودخل في عمق جيش المرتدين، فقدّر الله تعالى أن يحقق لزيد بن الخطاب رضي الله عنه أمنيته، ويلقى الشهادة. وبقتل زيد بن الخطاب رضي الله عنه حدث انكسار ثانٍ في جيش المسلمين، فهجم جيش مسيلمة في هذة المرة هجومًا شديدًا، واجتاحوا جيش المسلمين للمرة الثانية حتى وصلوا لخيمة خالد بن الوليد للمرة الثانية، فقام ثابت بن قيس رضي الله عنه الذي يحمل راية الأنصار، ونادى على الأنصار، فيُلبِّي الأنصار, ويقاتلون قتالاً شديدًا، يقاتل ثابت بن قيس رضي الله عنه، وهو يحمل الراية، فتقطع إحدى رجليه، ويقع على الأرض، ثم يسمع النداء: يا لَلأَنصارِ. فيُسرِع، وهو برِجْلٍ واحدة، ويحبو على الأرض، فيقول له أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: ما عليك. فيقول: أُلَبِّي ولو حبوًا. فيستشهد، ثم يستمر جيش مسيلمة في الهجوم على جيش المسلمين، فيظهر نموذج آخر، وهو أبو حذيفة رضي الله عنه. كان أبو حذيفة من حُفّاظ سورة البقرة، فينادي: يا أهل البقرة. فيقوم له المسلمون الحافظون لسورة البقرة، ويقاتلون قتالاً شديدًا حتى يستشهد رضي الله عنه.
واشتدَّت شوكة المسلمين, وبدءوا يهجمون على المشركين هجومًا شديدًا، وفي هذا الهجوم الثاني للمسلمين يصل خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى مسيلمة الكذّاب، فيدعوه إلى الإسلام؛ إذ كان حريصًا على قوة الإسلام، يقول له: ارجع للإسلام، لو رجعت للإسلام ستحفظ دماء هؤلاء الناس من القتل. فيأبى مسيلمة أن يسلم، ويستمر على ردَّتِه.
ثم يحدث انكسارٌ ثالثٌ في جيش المسلمين؛ لأن جيش المشركين كبير جدًّا، فيدخل جيش المشركين للمرة الثالثة، حتى يصلوا إلى خيمة خالد للمرة الثالثة، فقام عمار بن ياسر رضي الله عنه، وكان من حفاظ القرآن، يقول: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال. فينشط أهل القرآن، ويهجمون هجومًا شديدًا على المشركين، ويطلق خالد بن الوليد شعارًا للمعركة حتى يحفِّز المسلمين فيقول: وامحمَّداه. فازدادت الحميَّة في قلوب المسلمين، وعلموا أن هذا الرجل "مسيلمة الكذّاب" ليس منصورًا من الله وأن النصر معهم، وأنهم إذا ماتوا ماتوا على الإيمان، وهو ميِّت على الردة؛ فهجموا هجومًا شديدًا على المشركين حتى استطاعوا أن يقحموهم إلى اتجاه الحصن الكبير، فيسرع المرتدون إلى الحديقة، وأراد المسلمون دخول الحديقة، فلم يستطيعوا دخولها لمنعة أسوارها العالية. فخرج البراء بن مالك رضي الله عنه بفكرة عجبية جدًّا لفتح باب الحصن العظيم، فقال للمسلين: ضعوني على درع، ثم ارفعوا هذا الدرع بأسِنَّة الرماح، ثم ارفعوني، حتى أصل إلى أعلى السور، ثم اقذفوني داخل الحديقة، أفتح لكم الباب بإذن الله. فألقوه داخل الحديقة، وتكالب عليه المرتدون، وظل يقاتل حتى وصل إلى باب الحصن، وفتح الباب، بعد أن أصابه ثمانون طعنة، وبمجرد فتح الباب، أُسقط في يد المرتدين، فهم لم يتخيلوا أن يسقط عليهم رجل، ويثبت لقتالهم، ويفتح الباب، فأصاب ذلك في نفوسهم رهبة شديدة من المسلمين، وعلموا أن المسلمين منصورون، ومع ذلك قاتلوا على ردتهم.
ودخل جيش المسلمين الحديقة، وبدءوا يقاتلون المرتدين، وثبت المرتدون على القتال حتى شاء الله تعالى أن يُقْتَلَ محكم بن الطفيل وزير مسيلمة الكذّاب، فعلت همة المسلمين، وضعفت نفوس المرتدين، وازداد القتل في المرتدين، حتى وصل إلى مسيلمة الكذّاب أحدُ المسلمين الذي أراد أن يكفِّر عن ذنبٍ قديم عظيم ارتكبه في جاهليته، فحمل رمحه، وسدَّده إلى قلب مدَّعِي النبوة الكافر، فخرَّ صريعًا، وهذا الرجل الصحابي هو وحشيّ بن حرب قاتل حمزة بن عبد المطلب في غزوة أُحُدٍ!! وفي نفس اللحظة الذي يسقط فيها مسيلمة الكذاب برمح وحشي كانت تطير عنق مسيلمة الكذاب بسيف آخر في تزامنٍ عجيب من أبي دجانة، وبعد أن قطع أبو دجانة رأس مسيلمة الكذاب شاء الله له أن يلقى الشهادة، فقتله أحد المرتدين بسهمٍ وسقط رضي الله عنه شهيدًا في معركة اليمامة.
وبعد قتل مسيلمة الكذاب وهنت نفوس المرتدين، وخارت عزائمهم، فلم يقووا على فعل شيء، فأعلنوا تسليمهم، وبلغ عدد قتلى المرتدين في معركة اليمامة 21000 قتيل، واستشهد من جيش المسلمين 1200 شهيد، منهم 500 من حفظة القرآن.
وبعد انتصار خالد بن الوليد تسلل مجاعة بن مرارة إلى الحصون المجاورة، وكان فيها الذراري والنساء، وأمرهن بلباس عُدَّة الحرب، والوقوف في الشرفات، ونزل هو إلى خالد وعرض عليه الصلح وإلاَّ نزل هؤلاء القوم ليقاتلوك، ونظر خالد إلى الشرفات، فرأى أناسًا مدجَّجين بالسلاح، فنظر خالد إلى جيش المسلمين، فوجده قد أنهك من الحرب، فرأى خالد أن يصالحه، ولا يدخل في قتالٍ غير مضمون، فصالحه خالد على الرجوع إلى الإسلام وثلث ثمار اليمامة. وبعد إتمام الصلح فتح مجاعة الحصون، وعرف خالد أنها خدعة، فليس في هذه الحصون غير النساء والأطفال، وفي هذا الوقت جاء خطاب من أبي بكر رضي الله عنه بأن لا يقبل الصلح من بني حنيفة إذا عُرِض عليه، ولكن كان خالد قد أنهى الصلح، وأخذ خالد الثلث، وأسلم القوم وذهبوا إلى أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وبايعوه، وعنّفهم أبو بكر تعنيفًا شديدًا.